عيدي أمين (يمين) و ميلتون أوبوتي (يسار) |
"مهْما جرَيْتَ لن تكون سرعتك كسرعة الرصاصة," مقولةٌ غريبة سمعتُها لأول مرة أثناء زيارتي لإحدى مدن لاغوس عام 2005. وقد استشهد بها سائق سيارتنا في معرض حديثه عن حادثة دامية بين الشرطة وعصابة معيّنة. وعندما سألتُ السائق عمّا إذا كانت المقولة مجرّد " Asamo Oro" (أي: "مثَل أو حكمة" في لغة اليوروبا), أجابني مستغربا:
"ألم تسمع عن عيدي أمينو؟! Okunrin meta at’ábo (رجل بثلاثة رجل ونصف)!!"
.... ....
لا تزال تجري الحوارات على المستوى الأفريقي حول حقيقة "عيدي أمين دادا Idi Amin" - أحد الرؤساء الأوغنديين السابقين؛ إذ يراه البعض "قوميًّا" ظلمه الغرب وشوّه صورتَه الإعلام تعمّدا – ربما لكونه مسلما. وفي رأي آخرين - بمن فيهم أكاديميون أوغنديون - لم يكن سوى "استبدادي" و "سفاح".
لقد أشار "كالهون" (1997 ، ص 123) إلى أن "القومية متنوعة للغاية بحيث لا يمكن شرحها كلها بنظرية واحدة. ويُحدّد الكثير من المحتويات والتوجه المحدد لمختلف القوميات من خلال التقاليد الثقافية المتميزة تاريخيًّا ، والإجراءات الإبداعية للقادة، والحالات الطارئة ضمن النظام العالمي الدولي."
ومع ذلك, فإن النظر في مختلف الخطاب حول "القومية Nationalism" يؤدي إلى القول بـ"أن الإنسانية تنقسم بطبيعتها إلى أمم، وأن الأمم معروفة بخصائص معينة يمكن تحرّيها، وأن النوع الشرعي الوحيد للحكومة هو الحكم الذاتي الوطني." (كدوري, 1960، ص 9).
من هنا تأتي التساؤلات حول حقيقة "قوميّة" عيدي أمين, أو ربما كان عطشه للقوة والسلطة طغى على "قوميته" – وهو في ذلك كغيره من الزعماء والرؤساء الذين أتوا إلى السلطة عبر الدبابات أو الانتخابات بدعوى النضال والقتال من أجل الشعب, حتى وإن كانت "القومية" رغم الخلافات المثيرة حولها تهدف إلى دعم الأمة.
أما الذين ينادون إلى تجاهل الجرائم المنسوبة لـ"عيدي أمين" وعدم فتح الصفحات السوداء الكثيرة في عهد حكمه - لأنه عاش باقي حياته مع أسرته في السعودية حتى وفاته في 16 أغسطس عام 2003.. فهؤلاء هم من يريدون محو صفحة مهمّة من تاريخ أوغندا بشكل خاص وأفريقيا بشكل عام, وإهمال أهميّة تعلّم الجيل الجديد من أخطاء قادتهم السابقين.
لقد حصد "عيدي أمين" ألقابا شائعة لعلّ أشهرها "جزار أوغندا". فقد كان صعوده إلى سدّة الحكم نتيجة لما قام به سلفه الزعيم "أبولو ميلتون أوبوتي Apollo Milton Obote" من تسهيل لعملية انتزاع الجيش للسلطة.
كان "ميلتون أوبوتي" (ولد في 28 ديسمبر 1925 وتوفي في 10 أكتوبر 2005) من قاد بلاده أوغندا إلى الاستقلال عام 1962 من بريطانيا. وشغل بعد الاستقلال منصب رئيس وزراء أوغندا من 1962 إلى 1966, ثم رئيسًا للبلاد من عام 1966 إلى عام 1971, وأيضا من 1980 إلى 1985.
وإذ استخدم "أوبوتي" الجيش كأداة للتلاعب السياسي والسيطرة وإخضاع الخصوم بدلا من أداة للدفاع الوطني, فقد علّق أيضا دستور الاستقلال عام 1964 واعتمد في عام 1967 دستورا "وحدويا" - وهي خطوة شكلت سابقة خطيرة لتقويض حكم القانون.
كما أن " ميلتون أوبوتي" أيضا تلطّخ بالدكتاتورية في أواخر حكمه الرئاسي الثاني في الثمانينات - رغم قيادته لأوغندا إلى الاستقلال ودعوته إلى الوحدة في خطاب يوم الاستقلال قائلا:
“يجب أن تكون إحدى احتياجاتنا الأولى هي الوحدة الوطنية. ويجب أن تخضع الطموحات الضيقة لقبيلة أو طائفة أو حزب للاحتياجات الأكبر لأوغندا الموحدة الكاملة."
وكما ذكرت "هارييت عنينا" الكاتبة الصحفية الأوغندية, تمتّع "أوبوتي" في الأيام الأولى للجمهورية في أوغندا بتأييد من أنصاره باعتباره سياسيًّا "قوميًا" يحمل نظرة كبرى و "أجندة قومية" لأوغندا. وكانت المدائح تتدفق إلى "أوبوتي" من قريب وبعيد - بالرغم من هجومه على قصر ملك مملكة "بُوغَندا" في هضبة "منغو" عام 1966 - وهي أزمة سبقتْ طلب مملكة بوغندا من الحكومة المركزية ترك أراضيها، وإقالة "أوبوتي" لملك المملكة "موتيسا الثاني" كرئيس لأوغندا وتوجيه الاتهام للمملكة بمؤامرة الانقلاب على حكومة "أوبوتي".
وجاء الثناء أيضا من القادة الآخرين الذين عاصروا "أوبوتي", أمثال: الرئيس التنزاني "جوليوس نيريري", والرئيس الزامبي "كينيث كاوندا" الذي قال:
"... نحن نعرفه كرجل ذي رؤية طويلة وواقعية، رجل لديه مهمة لجعل أوغندا دولة واحدة، ودولة مزدهرة".
إن كل ما قيل عن " ميلتون أوبوتي" من رؤية وثناء قد يكون صحيحا في البداية, ولكنّ تجربته في بناء الأمة والتي تحمل معها الأمل والتفاؤل فشلتْ - ليس فقط لصعوبة تحقيق الوحدة الوطنية في بلد كان منذ قرون عبارة عن مجموعة من الممالك أو القبائل والجماعات العرقية، ولكن بسبب العنف وانهيار الدستور في أقل من خمس سنوات حيث الوسائل التي اتخذها "أوبوتي" قوّضت في النهاية تحقيق الوحدة الوطنية.
أما "عيدي أمين", فقد كان في فترة حكم "ميلتون أوبوتي" المدنية, رئيسًا لأركان الجيش الأوغندي. وقد أطاح "أمين" بالرئيس "أوبوتي" في 25 يناير عام 1971 عندما انقلبت القوات المسلحة الأوغندية على حكومته وهو خارج البلاد. وتولى "أمين" القيادة العليا بمساعدة من القادة العسكريين الموالين له, وأعلن نفسه قائدا أعلى للقوات المسلحة.
في بداية توليه للحكم نال "عيدي أمين" قبولا داخل أوغندا. ويعدّ أحسن ما قام به أن أعاد جثة الرئيس "الملك موتيسا الثاني" الذي توفي في المنفى عام 1969 إلى أوغندا لإعطائها تكريما وطنيا. وفي حين أطلق أيضا سراح السجناء السياسيين, إلا أنه تصيّد ولاحق أنصار "أوبوتي" وغيرهم من الخصوم المحتملين.
فلم تكن المحاكم والصحف فقط مُسخّرة لأهواء الحكومة في ظل حكم "عيدي أمين" لمدة 8 سنوات, بل اتسمت حكومته أيضا بسوء الإدارة الاقتصادية وحلّ البرلمان. بل لم تعقد أي انتخابات!
ويمكن فهم طبيعة فترات حكم "أمين" في أنها شهدت عددا من المحاولات الانقلابية الفاشلة ومؤامرات الاغتيال. ومن أبرزها محاولة "أوبوتي" في 17 سبتمبر عام 1972 بمهاجمة أوغندا من منفاه في تنزانيا مع ألف جندي, لكنّ "أمين" نجح في سحق هذه المحاولة.
وحتى اليوم لا يوجد اتفاق في عدد القتلى خلال عهد "أمين", إلا أن تقديرا من اللجنة الدولية للحقوقيين في جنيف أفاد بأنه لم يكن أقل من ثمانين ألف شخص ومن المحتمل أن يصل إلى حوالي ثلثمئة شخص.
في يوم 10 من عام 1979, هاجمت قوة مشتركة مؤلفة من مؤيدي "أوبوتي" والقوات التنزانية عاصمة أوغندا "كمبالا", وذلك بأمر من الرئيس "نيريري". واستعاد "أوبوتي" في العام نفسه السلطة بعد الإطاحة بـ"أمين" الذي هرب مع أسرته وبعض مؤيديه المخلصين إلى طرابلس بليبيا.
وإذ شابت فترة حكم "أوبوتي" الثانية القمع ووفاة مدنيين, إلا أنه أطيح به مرة أخرى في 27 يوليو 1985 في انقلاب عسكري من قبل قادة جيشه, وهما العميد "بازيليو اولارا اوكيلو" والجنرال "تيتو اوكيلو".
حكم الجنرالان البلاد لفترة قصيرة من خلال مجلس عسكري، ولكن "جيش المقاومة الوطنية" بقيادة "يوري موسيفيني Yoweri Museveni" سيطر على السلطة الوطنية بعد أشهر قليلة من الفوضى.
"..إن حقيقة كون يوري (موسيفيني) – الذي يزداد حكمه على مدى ثلاثة عقود قمعا وفسادا بشكل عام وغير ديمقراطي - أفضلَ رئيس لأوغندا بلا شكّ، تُخبر عن أحوال المناخ السياسي في البلاد بعد الاستقلال," يقول الكاتب النيجيري "أوبيوكوو", مضيفًا أن "أول هذه المجموعة السيئة من القادة كان ميلتون أوبوتي."