ويبدو أنّ التوترات بين أوغندا ورواندا - والتي تختمر منذ عامين – قد اقتربت من الذروة بعد تصاعد خطير لِلَهَجات الاتهامات المتبادلة وعمليات إغلاق الحدود قبل بضعة أسابيع؛ فقد أوقفت رواندا الشاحنات الأوغندية المتجهة إلى نقاط الحدود، ما دفعت السلطات الأوغندية إلى توجيه تُجّارها بالمرور عبر الكونغو الديمقراطية بدلاً من رواندا.
وفي بداية مارس توقفت أنشطة المرور بالمعابر تمامًا، ونصحت رواندا مواطنيها بعدم السفر إلى أوغندا لأسباب تتعلق بالسلامة -رغم ما يربط البلدين من الروابط التاريخية والثقافية والاقتصادية، وما لعبه كل منهما للآخر من دور رئيسي في التطور السياسي.
تاريخيًّا، كان الرئيس الأوغندي "يوري موسيفيني" والرئيس الرواندي "بول كاغامي" صديقين مقربين؛ ففي الثمانينيات، تولّى "موسيفيني" السلطة في أوغندا عبر "جيش المقاومة الوطنية" (NRA) المتمرّدة في حرب "لويرو" المعروفة أيضًا بحرب الغابة الأوغندية (1980-1986م) - بدعم من اللاجئين الروانديين الذين تركوا بلادهم بسبب الاضطهاد الموجّه لعرقية التوتسي، وكان من بين هؤلاء اللاجئين "بول كاغامي".
وفي المقابل دعم "موسيفيني" في أوائل التسعينيات صديقه الرواندي "كاغامي" في الاستيلاء على السلطة برواندا بعد أن مكَّنت أوغندا هؤلاء اللاجئين الروانديين النازحين من تشكيل "الجبهة الوطنية الرواندية" (RPF)، كما أنقذت أوغندا الجناح العسكري للجبهة الوطنية الرواندية من التعرض للهزيمة على أيدي جيش الحكومة الرواندية وقتذاك، بعد فشل الجناح في غزوه للنظام الحاكم في رواندا في أكتوبر 1990م.
ولكنّ الصداقة بين الرجلين لم تستقرّ على حالٍ؛ فقد حاربا معًا وواجها خلال حرب "الكونغو" الأولى (1996-1997م) مرتكبي الإبادة الجماعية برواندا الهاربين إلى زائير (أو الكونغو الديمقراطية حاليًا)، وساهما في عملية الإطاحة بالدكتاتور الكونغولي "موبوتو سيسي سيكو". ولكنهما أيضًا انقلب أحدهما على الآخر خلال "حرب الكونغو الثانية" التي حدثتْ بين عامي 1998 و 2003م، عندما دعم كل من أوغندا ورواندا جماعاتٍ متمردة متعارضة -الأمر الذي أدّى إلى اشتباكات دامية بين جيشَي البلدين وتهديدات بحدوث حرب بينهما- بسبب محاولتهما للسيطرة على مدينة "كيسانغاني" الكونغولية، وأسفرت عن مقتل ما يقرب من 3000 شخص.
جذور الأزمة
اتّهم وزير الخارجية الرواندي "ريتشارد سيزيبيرا"، في أواخر الشهر الماضي، دولة أوغندا بدعم جماعتين من رواندا –"المؤتمر الوطني الرواندي" (RNC) و"القوى الديمقراطية لتحرير رواندا" (FDLR)-؛ فالأولى جماعة توصف بالتمرد يقودها بعض المنشقين البارزين من رواندا -بمن فيهم "كايومبا نيامواسا" المقيم في جنوب إفريقيا-، بينما يقول مؤسسوها: إنها حزب سياسي.
أما الثانية -الجبهة الديمقراطية لتحرير رواندا – فهي جماعة متمردة متكونة من الجنود الروانديين السابقين وميليشيات الهوتو الذين فرّوا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية بعد اتهامهم بقتل نحو 800،000 من التوتسي والهوتو المعتدلين خلال الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. ولم تُخْفِ هذه الجماعة منذ ذلك الحين نيّتها للإطاحة بحكومة الرئيس "كاغامي".
"يمارس المؤتمر الوطني الرواندي والقوى الديمقراطية لتحرير رواندا أنشطتَها في أوغندا بدعم من بعض السلطات هناك"؛ هكذا صرح الوزير الرواندي في مؤتمر صحفي بكيغالي، وأضاف "هذه قضية خطيرة أخرى، وقد أثرناها معهم".
ومن ضمن اتهامات رواندا لأوغندا أنّ الأخيرة تضايق مواطنيها المقيمين على الأراضي الأوغندية. ولعلّ ما يعضد هذا الزعم أنّ أوغندا – التي اتّهمت بدورها أيضًا دولة رواندا بزراعة شبكة التجسس في أراضيها- دخلتْ منذ عامين ماضيين في عملية "مكافحة التجسس"، ما أدَّى إلى القبض على كبار ضباط الأمن الأوغنديين بمن فيهم قائد الشرطة السابق الجنرال "كايل كاييهورا" بتهمة تقويض الإعادة القسرية للمواطنين الروانديين وغيرهم.
واعتقلت السلطات في أوغندا ورحّلت أشخاصًا آخرين بمزاعم التصرف نيابة عن المخابرات الرواندية، وأنهم أعضاء في شبكة من الخلايا النائمة تقوم بعمليات خطف ومراقبة واغتيال للمعارضين والمنشقين السياسيين، ولم يستثنِ الترحيل أيضًا رجال أعمال أجانب وشخصيات رواندية على رأس شركة اتصالات دولية في أوغندا.
وفي ردّها على سلسلة الاتهامات الموجهة إليها؛ أصدرت وزارة الخارجية الأوغندية بداية الشهر الجاري (5 مارس) بيانًا عن علاقات بلاده مع رواندا بعد تأزم العلاقات بإغلاق الحدود الرئيسية لـ"غاتونا" بشكل جزئي. وتناول البيان ثلاثة موضوعات رئيسية؛ بما في ذلك اتهامات بإيواء المنشقين ضد نظام "كاغامي"، ومضايقة أوغندا لمواطنين روانديين.
وجاء في البيان الأوغندي: "ليس صحيحًا أن أوغندا تستضيف أي عناصر تقاتل رواندا. لا تسمح أوغندا ولن تسمح لأيّ شخص يهدد جارًا بالعمل على أراضيها".
ونفتْ أوغندا أيضًا مضايقتها للروانديين وتعذيبهم؛ فـ"الروانديون مدعوون لزيارة أوغندا. ومع ذلك، تتوقع أوغندا أن يظل جميع زوّار البلاد، بمن فيهم الروانديون، ملتزمين بالقانون؛ لأن الذين يتصرفون بشكل مخالف للقانون، يُتعامل معهم وفقًا للقانون".
أما تقييد رواندا لحركة البضائع والأشخاص عبر الحدود المشتركة؛ فقد انتقدها الجانب الأوغندي، مؤكدًا التزام أوغندا بمعالجة أيّ قضايا تتعلق بالتجارة؛ لأنها مقتنعة "بأن القيام بذلك يعزّز تكاملنا الإقليمي".
حرب الكلمات ودعوات للهدوء
وانعكست التوترات أيضًا في لهجات التصريحات الرئاسية لكلا البلدين، بل واندلعت مؤخرًا ما يمكن وصفه بـ"حرب الكلمات" بين كل من الرئيس الأوغندي "موسفيني" والرئيس الرواندي "كاغامي".
"يمكنك محاولة زعزعة استقرار بلدنا، يمكنك أن تؤذينا، يمكنك إطلاق النار عليّ بالبندقية وقَتْلِي. ولكنْ هناك شيء واحد مستحيل، لا أحد يستطيع أن يُجْثِيَني على ركبتي. أعزائي رجال ونساء بلدنا، يجب ألّا تقبلوا ذلك أبدًا"؛ هكذا قال الرئيس الرواندي "كاغامي" في لقاء حكومي يوم السبت (الموافق 9/3/2019م) بنبرة صوتٍ تبدو كصرخة حربٍ.
ومن باب الردّ بالمثل، أجاب الرئيس "موسيفيني" قائلاً: "أولئك الذين يريدون زعزعة استقرار بلدنا لا يعرفون قدرتنا. إنها كبيرة جدًّا. لا يمكنك النجاة بمجرد التعبئة".
أما الأوغنديون والروانديون -وهم المتضررون الحقيقيون من هذه الأزمة-، فقد دعوا حكومتَيْهما إلى التزام الهدوء، وإعلاء الحوار والأخوة الطويلة بين الشعبين. وفي استجابة محمودة لهذه المطالبات، ناشد رئيس وزراء أوغندا "روهاكانا روغوندا" في بداية الشهر الجاري (مارس) الجميع مطالبًا بالتهدئة، مشيرًا إلى أن وزارة الشئون الخارجية بالبلاد تعمل على حلّ القضية؛ "إنّ أوغندا ورواندا دولتان شقيقتان، لذا، لا ينبغي للناس أن يشعروا بالقلق؛ لأنه يجب معالجة هذه القضايا وإنهاؤها. إن وزارة الشؤون الخارجية الأوغندية تعمل في هذا الشأن"؛ هكذا قال "روغوندا" لسكان جنوب غرب بلدة "كابالي".
آثار الأزمة الإقليمية
من الواضح أنّ الأزمة الراهنة، وخصوصًا إغلاق الحدود بين الجارتين قد خلقتْ اضطرابات هائلة في التجارة العابرة للحدود وحياة المسافرين والسكان من الجانبين. إضافة إلى أن عددًا كبيرًا من الروانديين يعتمدون على أوغندا للحصول على الغذاء والدواء، ما جعل بعضهم بعد إغلاق الحدود يتسللون إلى أوغندا من خلال عبور الأنهار.
ومن النقاط التي تراها كيغالي خطيرة أنّ شقيقتها في كامبالا تستضيف وتدعم أعدادًا كبيرة من المنشقّين. وقد أدرك "جون ماغوفولي" أهمية هذه النقطة عندما تسلم رئاسة تنزانيا في نوفمبر 2015م؛ حيث أعاد تأسيس علاقات بلاده مع رواندا وعزَّزها من خلال إبداء فهمه لمخاوف رواندا تجاه الجماعتين المتمردتين -المؤتمر الوطني الرواندي (RNC) والقوى الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR).
وقد أبدى بعض الزعماء الأفارقة رغباتهم في الوساطة والتدخل للحلّ؛ بمن فيهم الرئيس الكيني "أوهورو كينياتا" الذي زار وقابل رئيسي البلدين. ومع ذلك، فإن تجاهل ما يجري في الجارتين التي تتبنّى كلٌّ منهما سياسة العين بالعين قد يؤدي إلى اندلاع مشاكل أمنية لمنطقةٍ لم تختفِ فيها بعدُ مُخلَّفات النزاعات الأهلية السابقة والانهيار الاقتصادي. ويهدِّد انهيار علاقاتهما بتقويض التقدم المُحْرَز في استراتيجية التعاون والتكامل الإقليميين؛ لأنهما عضوان في السوق المشتركة وإطار العمل الجمركي الموحَّد في داخل مجموعة شرق إفريقيا (EAC).
ـــــــــــــــــ
**تنبيه: قد نشرتُ منذ يومين نسخة مختصرة من هذا المقال في قراءات إفريقية أيضا.