وبالرجوع إلى تاريخ غامبيا الحديث؛ فقد بدأ "داودا جاوارا" نضاله من أجل تحقيق استقلال البلاد بسنوات قبل نشر "أليكس هيلي" -المؤلف الأمريكي من أصل إفريقي– كتابَه "جذور" عام 1976، وقبل زيارتَي "هيلي" الشهيرتين لغامبيا عام 1967م و1977م.
لكن جهود "جاوارا" رغم نجاحاتها لم تجذب الاهتمام العالمي؛ فقد استقلّتْ غامبيا عن بريطانيا عام 1965م، ولكنها مع ذلك مجرّد سطر عريض غير مشهور لدى البعض، أو نقطة صغيرة على الخريطة الإفريقية، فمنحها اهتمام "هيلي" -الذي كان بدوره يبحث عن جذور أجداده (بدءًا من كُنْتَا كِنْتِي الذي اختُطف من غامبيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية كالرقيق)– شهرة واسعة في الأوساط الأمريكية والعالمية.
كما انتقل "داودا جاوارا" بسبب الكتاب والزيارة من بطل قومه إلى بطل المقالات والتقارير الصحفية الدولية التي ترفق معها خريطة غامبيا ومجتمعاتها الريفية أو ما تسمى "المحمية"، ومدينة "بانجول" المعروفة باسم "باتهورست" حتى عام 1973م.
الولادة والدراسة
وُلد الحاج السر "داودا جاوارا" في 16 مايو 1924م، في بلدة "باراجالي" الصغيرة لأبٍ مزارع من الماندينغ الذي خصَّص له مكانة خاصة بين أبنائه الستة ليحصل على التعليم الحديث. فألحقه أبوه بالمدرسة الابتدائية الإسلامية المحلية، وانتقل "جاوارا" إلى غانا بعد تخرجه من المدرسة الثانوية الميثودية للبنين في العاصمة "باتهورست" في عام 1945م، ودرس العلوم في كلية "أشيموتا" لمدة عامين قبل مغادرته إلى اسكتلندا والتحاقه بـ "جامعة غلاسكو" عام 1948م لدراسة الجراحة البيطرية.
في عام 1953م تأهل "جاوارا" كطبيب بيطري، وكان سجلّه الجامعي الذي نشرته الجامعة يشيد بالدور النشط الذي لعبه في الحياة الجامعية. وكان سكرتيرًا ثم رئيسًا لاتحاد الطلاب الأفارقة في غلاسكو. وفي عام 1954م عاد إلى بلاده ليمارس مهنته كطبيب حيواني حكومي، وقضى معظم ساعات عمله في المناطق الريفية من المحمية؛ حيث كانت هناك حاجة ماسَّة إلى برامج مكافحة الأمراض الزراعية.
ورغم أنه أصبح المسؤول البيطري الرئيسي في المحمية البريطانية عام 1957م، إلا أن اهتمامه الشديد بالسياسة تطوَّر بسبب الحالات المزرية لسكان المناطق الريفية خلافًا للترف والرفاهية المتاحة في المدينة؛ حيث يقضي هو وقت فراغه. فانضم إلى "حزب شعب المحمية" (PPP)؛ الحركة السياسية حديثة النشأة وقتذاك. بل غيَّر اسم الحزب إلى "حزب الشعب التقدمي"، وأصبح قائده.
البداية السياسية واستقلال غامبيا
فاز "جاوارا" في انتخابات عام 1960م بمقعد في الهيئة التشريعية الغامبية، وعُيِّن وزيراً للتعليم في الحكومة. غير أنه استقال من منصبه الوزاري في عام 1961م عندما اختارت الحكومة البريطانية زعيمًا حليفًا لها ومُنافسًا لـ"جاوارا" كرئيس الوزراء المؤقَّت في البلاد استعدادًا لانتخابات جديدة.
في عام 1962م، أصبح "جاوارا" رئيس وزراء غامبيا بعد فوز حزبه بالانتخابات العامة، ولكن التحديات التي عاينها من مختلف المجالات هائلة وكبيرة؛ فلم يكن هناك سوى 80 مدرسة وقتذاك في كل غامبيا مع ما مجموعه 13,000 طالب فقط؛ ولم تُستغلَّ الفرص التي أتاحها اقتصاد البلاد القائم على الزراعة أو حتى توسيعها إلى محاصيل مختلفة أخرى، كما أن الأرباح من صناعة السياحة لا تخدم سوى مجموعة معينة من سكان البلاد.
وكان هناك توقعات من الغامبيين بأن الخدمات الاجتماعية في البلاد ستتطور فور تحقيق الاستقلال، ما أدّى إلى تحذير "جاوارا" لشعبه من توقّع حدوث المعجزات, حيث قال:
"الاستقلال ليس وصفة سحرية من شأنها أن تُحوِّل المكسرات إلى الماس".
وشدّد "جاورار" عشيّة استقلال بلاده أنه على الرغم من التحديات الموجودة أمامه وأمام شعب غامبيا, إلا
"أن غامبيا حتى كدولة صغيرةٍ قادرةٌ على أن توضح لبقية العالم كيف يمكن لمجموعة من الناس ذوي الأصول والخلفيات العرقية المختلفة أن يعيشوا معًا في سلام ووئام."
في عام 1965م، قاد "داودا جاوارا" بلاده إلى الاستقلال، وأصبح حزبه قوة سياسية مهيمنة. وكانت غامبيا تحت قيادته من الديمقراطيات البرلمانية القليلة الناجحة في إفريقيا؛ إذ فاز "حزب الشعب التقدمي" الحاكم بستة انتخابات متتالية (في كلٍّ من العام 1966، 1972، 1977، 1982، 1987، 1992م) في أجواء حرَّة وظروف انتخابية نزيهة.
وانتُخب "جاوارا" أول رئيس للجمهورية الغامبية من عام 1970م عندما تبنَّت البلاد دستورًا جمهوريًّا حلَّ محل الملكية السابقة تحت السيادة البريطانية. ونجا "جاوارا" من محاولة انقلاب عام 1981م بمساعدة من دولة السنغال المجاورة التي اتفقتْ مع غامبيا على تشكيل كونفدرالية "سينيغامبيا" من عام 1981 إلى عام 1989م.
الإطاحة به من الحكم وأواخر حياته
وعلى الرغم من إنجازات "جاوارا" خلال فترة حكمه، فقد وُجِّهت إليه انتقادات بسبب انتشار المحسوبية والفساد في البلاد. وساعد هذا الرأي السائد في فتح الباب أمام انقلاب عسكري عام 1994م أُطيح بـ"جاوارا" من خلاله من الحكم بقيادة النقيب "يحيى جامع" الذي قاد البلاد من عام 1994 حتى عام 2017م. ومُنح "جاوارا" وعائلته حقّ اللجوء فى السنغال كما عاشوا لاحقًا في المنفى في لندن.
في أواخر عام 2001م، أصدر الرئيس الغامبي "يحيى جامع" عفوًا رئاسيًّا لـ "جاوارا"، وعاد إلى غامبيا عام 2002م بشرط أن لا يشارك في السياسة الوطنية. ومع ذلك، فقد كان نَشِطًا في الشؤون الإقليمية من خلال عمله مع "الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا" (ECOWAS)، وأدَّى خلع "يحيى جامع" عام 2017م من المنصب الرئاسي إلى عودة اسم "جاوارا" إلى الساحة السياسية وارتفاع أسهمه وذاعت شهرته مرة أخرى في البلاد.
وحول وفاته، أشاد رئيس غامبيا الحالي "آداما بارو" -في بيانٍ– بجهود الحاج "داودا جاوارا"، وبدوره في بناء ونهضة غامبيا، وأشار إلى أنه كان مشهورًا باسم "كَيْرابا جاوارا"، أو "جاوارا المُسَالم الهادئ"، وأنه "بطل السلام الدولي والعدالة وحقوق الإنسان".
ـــــــــــــ
نشرتُ المقال أيضا في دورية قراءات إفريقية.